في اليوم السابع من شهر كانون الثاني، أي اليوم الذي يلي عيد الظهور الإلهي، تعيد الكنيسة لمن كان له دور بشري رئيسي في حادثة الظهور هذه فتقيم تذكاراً جامعًا ليوحنا المعمدان. لذا يجدر بنا أن نتأمل في تلك الشخصية الفريدة التي أعطيت في الإنجيل وفي الكنيسة مكانة خاصة.
"الملاك": رسالة يوحنا قد حددها العهد الجديد بتطبيقه عليه نبوة من العهد القديم: "ها أنذا أرسل أمام وجهك ملاكي ليهيء طريقك قدامك" (متى 11: 10، مر 1: 2). وإذا عدنا إلى نص النبوة الحرفي في ملاخي نقرأ: "ها أنذا أرسل أمام وجهي ملاكي فيهيء الطريق أمامي" (ملاخي 3: 1).
واستبدال ضمير المتكلم بضمير المخاطب هنا دليل إلى المساواة التامة الكائنة بين الآب والإبن. يوحنا كان إذاً "الملاك" (والعبارة هذه تعني المرسل) الذي أتى ليهيء الطريق أمام الرب، ليمهد سبل ملكوت الله الآتي بالمسيح إلى البشر. ولذا نرى الكنيسة تمثله في ايقوناتها مجنحاً كالملائكة الذين شابههم بكونه مثلهم "أرسل للخدمة من أجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب 1: 14): "كان انسان مرسل من الله اسمه يوحنا" (يو 1: 6).
"السابق": لقد أُرسل يوحنا ليمهد الطريق للربّ، "ليسير أمامه" (لو 1: 17). ولذا دعي "السابق" وشبهته الكنيسة "بالكوكب السحري السابق الشمس". إن أنبياء العهد القديم كلهم كانوا على صورة ما سابقين للمخلص. يشيرون إليه بصور ورموز من أعماق العصور. أما يوحنا؛ فلأنه كان خاتمتهم، فقد حظي بأن يرى بعين الجسد ما رآه الأنبياء السابقون بعين الروح فقط، وأن يشير اليه بالبنان وأن يلامس هامته بيده.
"الصابغ": ولأن يوحنا كان يمثل العهد القديم بأفضل مظاهره، فقد شاء الرب أن يتقبل منه المعمودية - ذلك التطهر الرمزي- "لكي يتم كل برّ" العهد القديم )متى 3: 15) أي لكي يدخل في رموز العهد القديم بتواضع الفادى، جاعلاً نفسه مع الخطأة، فيحول بقوة الفداء تلك الرموز إلى حقيقة والظلال إلى نور، ومعمودية الماء إلى "معمودية الماء والروح" التي بها يتجدد الإنسان في أعماق كيانه. لقد كان يوحنا خادماً لهذا السرّ الذي أذهله، فشاهد الروح منحدراً على الإبن الحبيب وحاضناً الماء ليجدد به الخليقة كما حضنه عند الخليقة الأولى ليبث الحياة فيه. ولأن الرب قد شاء أن يحني هامته أمام يوحنا ليتقبل المعمودية منه، استحق السابق لقباً آخر هو لقب "الصابغ".
"المنادى بالتوبة": ولكن يوحنا كان قبل ذلك بدأ يمهد الطريق للمسيح. كان "صوت صارخٍ في البرية. أعدوا طريق الرب، مهّدوا سبله". لقد كان ملكوت الله قريباً، وملكوت الله لا يدخل إليه إلا بالتوبة. لذا نادى يوحنا بالتوبة، والتوبة إنما هي انسلاخ عن ذهنية الخطيئة وأعمال الخطيئة والسلوك في نهج جديد، ولذا دعا يوحنا إلى "تقديم أثمار تليق بالتوبة" (لو 3: 8). والتوبة تتجلى في السلوك اليومي، في صغائر الأمور وكبائرها، في معاملة الناس، في العمل المهني على أنواعه، ولذا كان يظهر يوحنا مناهج التوبة للعشارين جباة الضرائب قائلاً لهم: "لا تتقاضوا أكثر مما فرض لكم" (لو 3: 13) وللجنود: "لا ترهقوا أحداً ولا تفتروا على أحد وأقنعوا بمرتباتكم" (لو 3: 14). والتوبة عملية شاقة تتطلب عنفاً روحياً: "ملكوت السماوات يغتصب والمغتصبون يأخذونه عنوة" (متى 11: 12). ولذا كان يوحنا يعنف الناس ليحرك فيهم الضمائر المتحجرة والنفوس المخدرة، فيخاطبهم بقسوة كلها محبة ليدفعهم إلى الخلاص.
"الغيور": لقد كانت غيرته الملتهبة، غيرة إيليا، لا تتورع من توبيخ الملوك ليتوبوا أيضاً. ولذا فقد كان مصيره مصير الأنبياء الصالحين الذين لم يمالئوا الناس ولم يساوموا على كلمة الله؛ ولكنهم جابهوا بها دون وجل عظماء هذا الدهر. فكان استشهاده مقدمة وصورة المسيح الذي "أكلته (أيضاً) غيرة بيت الله".
"الشاهد": ذاك الاستشهاد لم يكن سوى خاتمة وقمة الشهادة التي أداها يوحنا في حياته. لقد حدد العهد الجديد دوره بإطلاقه عليه لقب الشاهد: "هذا جاء للشهادة ليشهد للنور.. لم يكن هو النور بل ليشهد للنور..." (يو 1: 7 و8). على ضفاف الأردن شهد يوحنا ليسوع، شهد له قبل ظهوره قائلاً: "ولكن يأتي بعدي من هو أقوى مني، وأنا لا أستحق أن أحل سيور نعليه، فهو يعمدكم بالروح القدس والنار" (لو 3: 16) وأخبر أنه الفادى المنتظر والديان "الذي يجمع القمح إلى أهرائه وأما التبن فيحرقه بنار لا تنطفئ" (لو 3: 17). وعندما ظهر يسوع أشار اليه قائلاً: "هوذا حمل الله، الذي يرفع خطيئة العالم... أشهد أن هذا هو ابن الله" (يو 1: 26 و34).
وفي كلتا الحالتين، نرى يوحنا يحول عنه انتباه تلاميذه- وقد كانوا كثيرين- لكي يوجهه نحو شخص آخر. ذلك أن يوحنا كان الشاهد بكل ما في الكلمة من معنى. لم يرد أن يبني لنفسه زعامة شخصية. لم يرد أن تلتف حوله الجموع. انما جل همه كان أن يمحي أمام ذاك الذي كان ينذر بمجيئه.
كان تلاميذ يوحنا يتضايقون عندما بدأت الجموع تقبل إلى يسوع وتهجر معلمهم، أما هذا الأخير فأفهمهم أنه هكذا بلغ أمنيته: "ينبغي له أن ينمو، ولي أن أنقص" (يو 3: 30). لقد أرسل بنفسه تلاميذه إلى يسوع، وافهمهم أن العريس الذي إليه يزف شعب الله، ذلك العريس الذي تحدث عنه نشيد الأنشاد والذي وُلدت الكنيسة بالدم والماء المتدفقين من جنبه المطعون على الصليب كما خرجت حواء من جنب آدم، أن ذلك العريس هو يسوع وأنه هو يوحنا صديق العريس الذي خطب له الشعب على ضفاف الأردن: "من له العروس فهو العريس، واما صديق العريس، القائم بقربه ويسمعه فانه يهتز فرحاً لصوت العريس، فذلك هو فرحي، وقد اكتمل" (يو 3: 29).
لقد كان فرح يوحنا بأن يمحي لكي يصبح كله شفافية للمسيح النور، بأن يكون "مصباح النور" كما تدعوه الكنيسة، فلا يلتفت الناس إليه بل إلى النور الذي من خلاله يشع. لقد أراد أن يكون "صوت الكلمة"، والصوت ليست له أهمية بحد ذاته، انما أهميته أنه ينقل الكلمة بنبرة تهز القلوب. وكما يضمحل الكوكب السحري عند شروق الشمس هكذا توارى يوحنا وراء نور المخلص.
"المشهود له": ولأن يوحنا أفرغ هكذا ذاته، فقد حظي بأن يمتلئ من المجد الإلهي، وبأن يشهد له الرب نفسه شهادة تغني عن كل مديح: "الحق أقول لكم، أنه لم يقم، في مواليد النساء، أعظم من يوحنا المعمدان" (متى 11: 11). ولذا رتلت الكنيسة: "نذكار الصديق بالمديح، وأما أنت أيها السابق فتكفيك شهادة الرب..." ووضعت ايقونته في كنائسها في المرتبة الثالثة بعد أيقونة السيد وأيقونة والدة الإله.
فيارب، يا من دعوتنا لنكون شهودًا لك، قائلاً: "ستكونون شهوداً لي..." (أعمال 1: 8)، هب لنا أن نسلك على منوال شاهدك يوحنا. أعطنا الغيرة المتوقدة والجرأة في اعلان حقك. أعطنا أن لا نسعى إلى زعامة وسيطرة مهما كانت خفية، مستترة، وأن لا نجعل من شخصنا صنماً، وأن لا نقيم ذواتنا حواجز بين الآخرين وبينك، اجعلنا فقط علامة نيرة ترفع الأبصار اليك. يا رب، لقد كان همّ يوحنا أن يمهد لإتصال بين الناس وبينك، لذلك أشار اليك فتبعك تلميذاه أندرواس ويوحنا ومكثا عندك وأقاما معك حواراً تقرر به مصيرهما (يو 1: 35-39)، أعطنا أن نفهم نحن أيضاً أن مصير النفوس يتقرر في ذاك الحوار الشخصي، الخفي، معك، وان نفسح المجال لحوار كهذا بينك وبين كل من الذين أعطي لنا أن نهتم بأمرهم، لكي يؤخذوا بنورك وحلاوتك ويمجدوك معنا إلى الأبد، بشفاعة سابقك يوحنا وجميع قديسيك. آمين
العدد الأول من مجلة النور 1962
No comments:
Post a Comment